فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{وَمَا نُرْسِلُ المرسلين} إلى الأمم ملتبسين بحال من الأحوال {إِلا} حالَ كونهم {مُبَشّرِينَ} للمؤمنين بالثواب {وَمُنذِرِينَ} للكفرة والعصاة بالعقاب {ويجادل الذين كَفَرُواْ بالباطل} باقتراح الآياتِ بعد ظهور المعجزاتِ والسؤالِ عن قصة أصحاب الكهفِ ونحوها تعنّتًا {لِيُدْحِضُواْ بِهِ} أي بالجدال {الحق} أي يُزيلوه عن مركزه ويُبْطلوه من إدحاض القدمِ وهو إزلاقُها، وهو قولهم للرسل عليهم الصلاة والسلام: {مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا} {وَلَوْ شَاء الله لاَنزَلَ ملائكة} ونحوُهما {واتخذوا ءاياتى} التي تخِرُّ لها صمُّ الجبال {وَمَا أُنْذِرُواْ} أي أُنذروه من القوارع الناعيةِ عليهم العقابَ والعذابَ أو إنذارهم {هُزُوًا} استهزاءً، وقرئ بسكون الزاي وهو ما يستهزأ به.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بئايات رَبّهِ} وهو القرآنُ العظيم {فَأَعْرَضَ عَنْهَا} ولم يتدبرها ولم يتذكرْ بها، وهذا السبكُ وإن كان مدلولُه الوضعيُّ نفيَ الأظلمية من غير تعرّضٍ لنفي المساواة في الظلم إلا أن مفهومَه العُرْفيَّ أنه أظلمُ من كل ظالم، وبناءُ الأظلمية على ما في حيز الصلة من الإعراض عن القرآن للإشعار بأن ظلمَ من يجادل فيه ويتخذُه هزوًا خارجٌ عن الحد {وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أي عملَه من الكفر والمعاصي التي من جملتها ما ذكر من المجادلة بالباطل والاستهزاءِ بالحق ولم يتفكر في عاقبتها {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أغطيةً كثيرة جمع كِنان، وهو تعليلٌ لإعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوعٌ على قلوبهم {أَن يَفْقَهُوهُ} مفعولٌ لما دل عليه الكلام أي منعناهم أن يقفوا على كُنهه، أو مفعولٌ له أي كراهةَ أن يفقهوه {وَجَعَلْنَا على} أي جعلنا فيها {وِقْرًا} ثِقَلًا يمنعهم من استماعه {وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذًا أَبَدًا} أي فلن يكون منهم اهتداءٌ ألبتةَ مدةَ التكليف، وإذن جزاءٌ للشرط وجوابٌ عن سؤال النبي عليه الصلاة والسلام المدلولِ عليه بكمال عنايتِه بإسلامهم، كأنه قال عليه الصلاة والسلام: مالي لا أدعوهم؟ فقيل: إن تدعهم الخ، وجمعُ الضميرِ الراجع إلى الموصول في هذه المواضع الخمسة باعتبار معناه كما أن إفراده في المواطن الخمسة المتقدمة باعتبار لفظِه.
{وَرَبُّكَ} مبتدأ وقوله تعالى: {الغفور} خبرُه وقوله تعالى: {ذُو الرحمة} أي الموصوفُ بها، خبرٌ بعد خبرٍ، وإيرادُ المغفرة على صيغة المبالغة دون الرحمة للتنبيه على كثرة الذنوب، ولأن المغفرةَ تركُ المضارّ وهو سبحانه قادرٌ على ترك ما لا يتناهى من العذاب، وأما الرحمةُ فهي فعل وإيجادٌ ولا يدخل تحت الوجود إلا ما يتناهى، وتقديمُ الوصف الأولِ لأن التخليةَ قبل التحلية أو لأنه أهمُّ بحسب الحال إذ المقامُ مقامُ بيانِ العقوبة عنهم بعد استيجابهم لها كما يُعرب عنه قوله عز وجل: {لَوْ يُؤَاخِذُهُم} أي لو يريد مؤاخذتهم {بِمَا كَسَبُواْ} من المعاصي التي من جملتها ما حُكي عنهم من مجادلتهم بالباطل وإعراضِهم عن آيات ربهم وعدمِ المبالاة بما اجترحوا من المُوبقات {لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب} لاستيجاب أعمالِهم لذلك، وإيثارُ المؤاخذةِ المنبئة عن شدة الأخذِ بسرعة على التعذيب والعقوبةِ ونحوهما للإيذان بأن النفيَ المستفادَ من مقدَّم الشرطية متعلقٌ بوصف السرعة كما ينبىء عنه تاليها، وإيثارُ صيغة الاستقبال وإن كان المعنى على المضيّ لإفادة أن انتفاءَ تعجيلِ العذاب لهم بسبب استمرار عدمِ إرادة المؤاخذة فإن المضارعَ الواقعَ موقعَ الماضي يفيد استمرارَ انتفاءِ الفعل فيما مضى كما حُقق في موضعه {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ} اسمُ زمان هو يومُ القيامة، والمجلةُ معطوفةٌ على مقدر كأنه قيل: لكنهم ليسوا بمؤاخذين بغتةً {لَّن يَجِدُواْ} ألبتةَ {مِن دُونِهِ مَوْئِلًا} منْجى أو ملجأً، يقال: وأل أي نجا ووأل إليه أي لجأ إليه.
{وَتِلْكَ القرى} أي قرى عاد وثمودَ وأضرابِها، وهي مبتدأٌ على تقدير المضافِ أي وأهلُ تلك القرى خبرُه قوله تعالى: {أهلكناهم} أو مفعولٌ مضمرٌ مفسر به {لَمَّا ظَلَمُواْ} أي وقت ظلمِهم كما فعلت قريشٌ بما حُكي عنهم من القبائح، وتركُ المفعول إما لتعميم الظلم أو لتنزيله منزلةَ اللازم أي لما فعلوا الظلم، ولمّا إما حرفٌ كما قال ابنُ عصفور، وإما ظرفٌ استعمل للتعليل وليس المرادُ به الوقتَ المعين الذي عملوا فيه الظلم بل زمانٌ ممتدٌ من ابتداء الظلم إلى آخره {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم} أي عيّنّا لهلاكهم {مَّوْعِدًا} أي وقتًا معينًا لا محيدَ لهم عن ذلك، وهذا اسشهاد على ما فُعل بقريش من تعيين الموعد ليتنبهوا لذلك ولا يغتروا بتأخر العذاب، وقرئ بضم الميم وفتح اللام أي إهلاكهم وبفتحهما. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ} إلى الأمم متلبسين بحال من الأحوال {إِلا} حال كونهم {مُبَشّرِينَ} للمؤمنين بالثواب {وَمُنذِرِينَ} للكفرة والعصاة بالعقاب ولم نرسلهم ليقترح عليهم الآيات بعد ظهور المعجزات ويعاملوا بما لا يليق بشأنهم {ويجادل الذين كَفَرُواْ بالباطل} باقتراح ذلك والسؤال عن قصة أصحاب الكهف ونحوها تعنتًا وقولهم لهم {مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا} [يس: 15] {وَلَوْ شَاء الله لأنزَلَ ملائكة} [المؤمنون: 24] إلى غير ذلك، وتقييد الجدال بالباطل لبيان المذموم منه فإنه كما مر غير بعيد عام لغة لا خاص بالباطل ليحمل ما ذكر على التجريد، والمراد به هنا معناه اللغوي وما يطلق عليه اصطلاحًا مما يصدق عليه ذلك {لِيُدْحِضُواْ} أي ليزيلوا ويبطلوا {بِهِ} أي بالجدال {الحق} الذي جاءت به الرسل عليهم السلام، وأصل الإدحاض الإزلاق والدحض الطين الذي يزلق فيه قال الشاعر:
وردت ونجى اليشكري حذاره ** وحاد كما حاد البعير عن الدحض

وقال آخر:
أبا منذر رمت الوفاء وهبته ** وحدت كما حاد البعير المدحض

واستعماله في إزالة الحق قيل من استعمال ما وضع للمحسوس في المعقول، وقيل لك أن تقول فيه تشبيه كلامهم بالوحل المستكره كقول الخفاجي:
أتانا بوحل لأفكاره ** ليزلق أقدام هدى الحجج

{واتخذوا ءاياتي} التي أيدت بها الرسل سواء كانت قولًا أو فعلًا {وَمَا أُنْذِرُواْ} أي والذي أنذروه من القواع الناعية عليهم العقاب والعذاب أو إنذارهم {هُزُوًا} أي استهزاء وسخرية.
وقرأ حمزة {هزأ} بالسكون مهموزًا وقرأ غيره وغير حفص من السبعة بضمتين مهموزًا؛ وهو مصدر وصف به للمبالغة وقد يؤول بما يستهزأ به.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بآيات رَبّهِ} الأكثرون على أن المراد بها القرآن العظيم لمكان {أَن يَفْقَهُوهُ} فالإضافة للعهد وجوز أن يراد بها جنس الآيات ويدخل القرآن العظيم دخولًا أوليًا، والاستفهام إنكاري في قوة النفي، وحقق غير واحد أن المراد نفى أن يساوي أحد في الظلم من وعظ بآيات الله تعالى {فَأَعْرَضَ عَنْهَا} فلم يتدبرها ولم يتعظ بها، ودلالة ما ذكر على هذا بطريق الكناية وبناء الأظلمية على ما في حيز الصلة من الإعراض للأشعار بأن ظلم من يجادل في الآيات ويتخذها هزوًا خارج عن الحد {وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أي عمله من الكفر والمعاصي التي من جملتها المجادلة بالباطل والاستهزاء بالحق، ونسيان ذلك كناية عن عدم التفكر في عواقبه، والمراد {مِمَّنْ} عند الأكثرين مشركو مكة.
وجوز أن يكون المراد منه المتصف بما في حيز الصلة كائنًا من كان ويدخل فيه مشركو مكة دخولًا أوليًا، والضمير في قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ} لهم على الوجهين، ووجه الجمع ظاهر، والجملة استئناف بياني كأنه قيل ما علة الإعراض والنسيان؟ فقيل علته أنا جعلنا على قلوبهم {أَكِنَّةً} أي أغطية جمع كنان، والتنوين على ما يشير إليه كلام البعض للتكثير {أَن يَفْقَهُوهُ} الضمير المنصوب عند الأكثرين للآيات، وتذكيره وإفراده باعتبار المعنى المراد منها وهو القرآن.
وجوز أن يكون للقرآن لا باعتبار أنه المراد من الآيات وفي الكلام حذف والتقدير كراهة أن يفقهوه، وقيل لئلا يفقهوه أي فقهًا نافعًا {وَفِى ءاذَانِهِمْ} أي وجعلنا فيها {وِقْرًا} ثقلًا أن يسمعوه سماعًا كذلك {وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذًا أَبَدًا} أي مدة التكليف كلها، و{أَذِنَ} جزاء وجواب كما حقق المراد منه في موضعه فتدل على نفي اهتدائهم لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بمعنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سبب وجود الاهتداء سببًا في انتفائه، وعلى أنه جواب للرسول عليه الصلاة والسلام على تقدير قوله صلى الله عليه وسلم مالي لا أدعوهم حرصًا على اهتدائهم وإن ذكر له صلى الله عليه وسلم من أمرهم ما ذكر رجاء أن تنكشف تلك الأكنة وتمزق بيد الدعوة فقيل وإن تدعهم إلخ قاله الزمخشري.
وفي الكشف في بيان ذلك أما الدلالة فصريح تخلل {أَذِنَ} يدل على ذلك لأن المعنى إذن لو دعوت وهو من التعكيس بلا تعسف، وأما إنه جواب على الوجه المذكور فمعناه أنه صلى الله عليه وسلم نزل منزلة السائل مبالغة في عدم الاهتداء المرتب على كونهم مطبوعًا على قلوبهم فلا ينافي ما آثروه من أنه على تقدير سؤال لم لم يهتدوا؟ فإن السؤال على هذا الوجه أوقع اهـ.، وهو كلام نفيس به ينكشف الغطا ويؤمن من تقليد الخطأ ويستغني به المتأمل عما قيل: إن تقدير مالي لا أدعوهم يقتضي المنع من دعوتهم فكأنه أخذ من مثل قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا} [النجم: 29] وقيل أخذ من قوله تعالى: {على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} وقيل من قوله سبحانه: {إن تَدْعُهُمْ} هذا ولا يخفى عليك المراد من الهدى وقد يراد منه القرآن فيكون من إقامة الظاهر مقام الضمير، ولعل إرادة ذلك هنا ترجح إرادة القرآن في الهدى السابق، والله تعالى أعلم.
والآية في أناس علم الله تعالى موافاتهم على الكفر من مشركي مكة حين نزولها فلا ينافي الأخبار بالطبع وأنهم لا يؤمنون تحقيقًا ولا تقليدًا إيمان بعض المشركين بعد النزول، واحتمال أن المراد جميع المشركين على معنى وإن تدعهم إلى الهدى جميعًا فإن يهتدوا جميعًا وإنما يهتدي بعضهم كما ترى.
واستدلت الجبرية بهذه الآية على مذهبهم والقدرية بالآية التي قبلها، قال الإمام: وقل ما تجد في القرآن آية لأحد هذين الفريقين إلا ومعها آية للفريق الآخر وما ذاك إلا امتحان شديد من الله تعالى ألقاه الله تعالى على عباده ليتميز العلماء الراسخون من المقلدين.
{وَرَبُّكَ الغفور} مبتدأ وخبر وقوله تعالى: {ذُو الرحمة} أي صاحبها والموصوف بها خبر بعد خبر، قال الإمام: وإنما ذكر لفظ المبالغة في المغفرة دون الرحمة لأن المغفرة ترك الإضرار والرحمة إيصال النفع وقدرة الله تعالى تتعلق بالأول لأنه ترك مضار لا نهاية لها ولا تتعلق بالثاني لأن فعل ما لا نهاية له محال.
وتعقبه النيسابوري بأنه فرق دقيق لو ساعده النقل على أن قوله تعالى: {ذُو الرحمة} لا يخلو عن مبالغة وفي القرآن {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 173] بالمبالغة في الجانبين كثيرًا؛ وفي تعلق القدرة بترك غير المتناهي نظر لأن مقدراته تعالى متناهية لا فرق بين المتروك وغيره اهـ.، وقيل عليه إنهم فسروا الغفار بمريد إزالة العقوبة عن مستحقها والرحيم بمريد الأنعام على الخلق وقصد المبالغة من جهة في مقام لا ينافي تركها في آخر لعدم اقتضائه لها، وقد صرحوا بأن مقدوراته تعالى غير متناهية وما دخل منها في الوجود متناه ببرهان التطبيق اهـ.، وهو كلام حسن اندفع به ما أورد على الإمام.
وزعمت الفلاسفة أن ما دخل في الوجود من المقدورات غير متناه أيضًا ولا يجري فيه برهان التطبيق عندهم لاشتراطهم الاجتماع والترتب، ولعمري لقد قف شعري من ظاهر قول النيسابوري أن مقدوراته تعالى متناهية فإن ظاهره التعجيز تعالى الله سبحانه عما يقوله الظالمون علوًا كبيرًا ولكن يدفع بالعناية فتدبر، ثم إن تحرير نكتة التفرقة بين الخبرين هاهنا على ما قاله الخفاجي أن المذكور بعد عدم مؤاخذتهم بما كسبوا من الجرم العظيم وهو مغفرة عظيمة وترك التعجيل رحمة منه تعالى سابقة على غضبه لكنه لم يرد سبحانه إتمام رحمته عليهم وبلوغها الغاية إذ لو أراد جل شأنه ذلك لهداهم وسلمهم من العذاب رأسًا، وهذه النكتة لا تتوقف على حديث التناهي وعدم التناهي الذي ذكره الإمام وإن كان صحيحًا في نفسه كما قيل، والاعتراض عليه بأنه يقتضي عدم تناهي المتعلقات في كل ما نسب إليه تعالى بصيغ المبالغة وليس بلازم إذ يمكن أن تعتبر المبالغة في المتناهي بزيادة الكمية وقوة الكيفية ولو سلم ما ذكر لزم عدم صحة صيغ المبالغة في الأمور الثبوتية كرحيم ورحمن ولا وجه له مدفوع بأن ما ذكره نكتة لوقوع التفرقة بين الأمرين هنا بأنه اعتبرت المبالغة في جانب الترك دون مقابلة لأن الترك عدمي يجوز فيه عدم التناهي بخلاف الآخر ألا ترى أن ترك عذابهم دال على ترك جميع أنواع العقوبات في العاجل وإن كانت غير متناهية كذا قيل وفيه نظر.
وربما يقال في توجيه ما قاله النيسابوري من أن ذو الرحمة يخلو عن المبالغة: إن ذلك إما لاقتران الرحمة بأل فتفيد الرحمة الكاملة أو الرحمة المعهودة التي وسعت كل شيء وإما لذو فإن دلالته على الاتصاف في مثل هذا التركيب فوق دلالة المشتقات عليه ولا يكاد يدل سبحانه على اتصافه تعالى بصفة بهذه الدلالة إلا وتلك الصفة مرادة على الوجه الأبلغ وإلا فما الفائدة في العدول عن المشتق الأخصر الدال على أصل الاتصاف كالراحم مثلًا إلى ذلك، ولا يعكر على هذا أن المبالغة لو كانت مرادة فلم عدل عن الأخصر أيضًا المفيد لها كالرحيم أو الرحمن إلى ما ذكر لجواز أن يقال: إن أريد أن لا تقيد الرحمة المبالغ فيها بكونها في الدنيا أو في الآخرة وهذان الإسمان يفيدان التقييد على المشهور ولذا عدل عنهما إلى ذو الرحمة، وإذا قلت: هما مثله في عدم التقييد قيل: إن دلالته على المبالغة أقوى من دلالتهما عليها بأن يدعى أن تلك الدلالة بواسطة أمرين لا يعدلهما في قوة الدلالة ما يتوسط في دلالة الإسمين الجليلين عليها، وعلى هذا يكون ذو الرحمة أبلغ من كل واحد من الرحمن والرحيم وإن كانا معًا أبلغ منه ولذا جيء بهما في البسملة دونه، ومن أنصف لم يشك في أن قولك فلان ذو العلم أبلغ من قولك فلان عليم بل ومن قولك فلان العليم من حيث أن الأول يفيد أنه صاحب ماهية العلم ومالكها ولا كذلك الأخيران، وحينئذ يكون التفاوت بين الخبرين في الآية بأبلغية الثاني ووجه ذلك ظاهر فإن الرحمة أوسع دائرة من المغفرة كما لا يخفى، والنكتة فيه هاهنا مزيد إيناسه صلى الله عليه وسلم بعد أن أخبره سبحانه بالطبع على قلوب بعض المرسل إليهم وآيسه من اهتدائهم مع علمه جل شأنه بمزيد حرصه عليه الصلاة والسلام على ذلك؛ وهو السر في إيثار عنوان الربوبية مضافًا إلى ضميره صلى الله عليه وسلم انتهى.